فصل: فصل: في حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **


الوجه الثاني الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون إقساماً به أو تسبباً به فإن قوله‏:‏ بحق الصالحين إن كان إقساماً عليه فلا يقسم على الله إلا بصفاته‏.‏

وإن كان تسبباً فهو تسبب لما جعله سبحانه سبباً وهو دعاؤه وعبادته فهذا كله يشبه بعضه بعضاً وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا عمل صالح منا فإذا قال القائل أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين فإن كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم فكيف يقسم على الخالق به وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب حصول مقصوده لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة أو منهم كدعائهم لنا - لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم‏:‏ وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله‏.‏

وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال‏:‏ يا رب بحق آبائي عليك يا إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله إليه‏:‏ ‏"‏ يا داود أي حق لآبائك علي ‏"‏ وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه‏.‏

وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء‏.‏

وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه وبه لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله وأما لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال‏:‏ أقسمت عليك يا رب بملائكتك ونحو ذلك بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته‏.‏

فيقال‏:‏ ‏"‏ أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ‏"‏ الحديث كما جاءت به السنة وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام وقوله‏:‏ اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة - مع أن في جواز الدعاء به قولين للعلماء فجوزه أبو يوسف ومنع منه أبو حنيفة وأمثال ذلك - فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وهو أجمع وأنفع وأسلم وأقرب إلى الإجابة‏.‏

وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كانت لكم إلى الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ‏"‏ فهذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث والمشروع الصلاة عليه في كل دعاء‏.‏

ولهذا ذكر الدعاء في الاستسقاء‏.‏

وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال وإن كان بينهما فرق فدعاء غير الله كفر بخلاف قول القائل إني أسألك بجاه فلان الصالح فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه كان يدعو به‏.‏

ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء‏.‏

ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به‏.‏

وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ‏"‏ وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏ من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً ‏"‏‏.‏

وفي المسند أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله أجعل عليك ثلث صلواتي قال‏:‏ ‏"‏ يكفيك الله ثلث أمرك ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أجعل عليك نصف صلاتي ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ إذاً يكفيك الله ثلثي أمرك ‏"‏ فقال أجعل صلاتي كلها عليك فقال‏:‏ ‏"‏ إذا يكفيك الله ما أهمك من أمور دنياك وآخرتك ‏"‏‏.‏

وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي إتباع ذلك‏.‏

والمراتب في هذا الباب ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ أن الدعاء لغير الله سواء كان المدعو حياً أو ميتاً وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال‏:‏ يا سيدي فلان أغثني‏!‏ وأنا مستجير بك ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله‏.‏

والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك ومثل هذا واقع كثيراً في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة لاستغاثة بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين‏:‏ ادع الله لي وادع لنا ربك ونحو ذلك فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً ومخاطبتهم جائزة كما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور وأن يقول قائلهم‏:‏ ‏"‏ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ‏"‏‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما من رجل يمر بقبر رجل وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ ما من رجل مسلم سلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ‏"‏‏.‏

لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئاً‏.‏

وفي الإمام مالك‏:‏ أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبي ‏"‏ ثم ينصرف‏.‏

وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلوا القبر الشريف‏.‏

وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة من لا اعتبار بهم فإنه لم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق‏.‏

بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حنيفة‏:‏ يستقبل القبلة ويستدبر القبر وقال مالك والشافعي بل يستقبل القبر وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر ويجعل القبر عن يساره أو يمينه وهو الصحيح إذ لا محذور في ذلك‏.‏

الثالث‏:‏ أن يقول‏:‏ أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك فهو الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه وسلم وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء فكيف بغيرهم وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور ‏"‏ أو قال‏:‏ ‏"‏ فاستغيثوا بأهل القبور ‏"‏ فهذا الحديث كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ‏"‏ الآية‏.‏

وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيراً من الفتنة باليهود فإن ذلك هو أصل عبادة الأصنام أيضاً فإن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء فمن فهم معنى قوله‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده‏.‏

وقد يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله والتوكل لا يكون إلا على الله وما النصر إلا من عند الله‏.‏

فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا سبحانه وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله تعالى والله تعالى أعلم وصلى الله على أهل الصفة وأباطيل بعض الصوفية المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ مسألة‏:‏ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في أهل الصفة كم كانوا وهل كانوا بمكة أو بالمدينة وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة أو كان منهم من يقعد بالصفة ومنهم من يتسبب في القوت وما كان تسببهم هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل وما قول العلماء وفُّقهم الله تعالى فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن الستة الباقين من العشرة وأفضل من جميع الصحابة وهل كان فيهم أحد من العشرة وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حاد ينشد لهم أشعاراً ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون وما قول العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ‏"‏ هل هي عامة أم مخصوصة بأهل الصفة رضي الله عنهم وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي ‏"‏ وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على أهل العلم أو غيرهم ولماذا سمي الولي ولياً وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم وهل صحيح أن الولي يكون قاعداً في جماعة ويغيب جسده‏.‏

وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب وهذا قطب العالم وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء‏.‏

وأيضاً فما قول العلماء في هؤلاء القلندرية الذين يحلقون ذقونهم ما هم ومن أي الطوائف يحسبون وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنباً وكلمه بلسان العجم وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يدور في الأسواق والقرى ويقول من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره وهل يأثم من يساعده أم لا وما تقولون فيمن يقول أن الست نفيسة هي باب الحوائج إلى الله تعالى وأنها خفيرة مصر وما تقولون فيمن يقول أن بعض المشايخ إذا قام لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر معهم وماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد وما صفة رجال الغيب وما قول من يقول أنه من خفراء التتار وهل يكون للتتار خفراء أم لا وإذا كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهل هذه المشاهد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم مكذوبة وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله والمسؤول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوي والأحوال كشفاً شافياً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والحالة هذه أفتونا مأجورين أثابكم الله‏.‏

الحمد لله رب العالمين‏:‏ أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومنعة جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة وكان المؤمنون السابقون بها صنفين المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم وكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏.‏

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم ‏"‏ فهذا في السابقين‏.‏

ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال‏:‏ ‏"‏ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ‏"‏ الآية‏.‏

وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفوراً رحيماً ‏"‏‏.‏

فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل منهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهراً وباطناً وتارة ظاهراً فقط ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب‏.‏

فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون فتارة يكونون عشرة أو أقل وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين‏.‏

وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد كانوا نحو أربعمائة من الصحابة وقد قيل كانوا أكثر من ذلك‏.‏

جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يعرف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة وكان معتنياً بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا‏.‏

والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة وجمع أيضاً في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب‏.‏

وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل وما يرويه من الآثار فيه من وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه وكان البيهقي إذا روي عنه يقول‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعالى تعمد الكذب لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البنان والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما‏.‏

وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير‏.‏

وفيه أحياناً من الخطأ أشياء وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ وبعضه باطل قطعاً مصدره مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعاً من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات الباطلة ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله ويوجد أحياناً عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون بها وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن إتباع الظن وما تهوى النفس‏.‏

  فصل‏:‏ في حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين

وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء فقال‏:‏ ‏"‏ إن تبدوا الصدقات فنعماً هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لك ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ‏"‏ وقال في أهل الفيء‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏ وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله‏.‏

وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق‏.‏

وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حرمها على المستغني عنها وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقاً حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل وكلام للعلماء لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبع نفسك ‏"‏‏.‏

ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ما أعطي أحد عطاء خيراً أوسع من الصبر ‏"‏‏.‏

ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً أو كدوشاً في وجهه ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ‏"‏‏.‏

إلى غير ذلك من الأحاديث‏.‏

وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ لا تحل المسألة إلا لذي ألم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع ‏"‏ ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي‏:‏ ‏"‏ يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لثلاثة رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سداداً من عيش وقواماً من عيش ثم يمسك ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سحت أكله صاحبه سحتاً ‏"‏‏.‏

ولم يكن في الصحابة لا أهل الصفة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس والإلحاف بالمسألة بالكدية والمشاحذة - لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك كما لم يكن في الصحابة أيضاً أهل فضول من الأموال يزكون لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثني عليهم‏.‏